سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


الرعاية والمراعاة: النظر في مصالح الإنسان وتدبير أموره. والرعونة والرعن: الجهل والهوج. ذو: يكون بمعنى صاحب، وتثنى، وتجمع، وتؤنث، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر. وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف، المشهور: المنع، ولا خلاف أنه مسموع، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة. وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع. فمن الأول قولهم: ذو يزن، وذو جدن، وذو رعين، وذو الكلاع. فتجب الإضافة إذ ذاك. ومن الثاني قولهم: في تبوك، وعمرو، وقطرى: ذو تبوك، وذو عمرو، وذو قطرى. والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو. وما جاء من إضافته لضمير العلم، أو لضمير مخاطب لا ينقاس، كقولهم: اللهم صل على محمد وعلى ذويه، وقول الشاعر:
وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما *** رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل
ومذهب سيبويه: أن وزنه فعل، بفتح العين، ومذهب الخليل: أن وزنه فعل، بسكونها. واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال. قالوا: أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف، وفي الجر بالياء. وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء، فذلك على جهة الجواز. وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة، وذلك في لغة طيء، ولها أحكام، ولم تقع في القرآن. النسخ: إزالة الشيء بغير بدل يعقبه، نحو: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر. أو نقل الشيء من غير إزالة نحو: نسخت الكتاب، إذا نقلت ما فيه إلى مكان آخر. النسيئة: التأخير، نسأ ينسأ، ويأتي نسأ: بمعنى أمضى الشيء، قال الشاعر:
لمؤن كألواح الإران نسأتها *** على لاحب كأنه ظهر برجد
الولي: فعيل للمبالغة، من ولي الشيء: جاوره ولصق به. الحسد: تمني زوال النعمة عن الإنسان، حسد يحسد حسداً وحسادة. الصفح: قريب معناه من العفو، وهو الإعراض عن المؤاخذة على الذنب، مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضاً. وقيل: هو التجاوز من قولك، تصفحت الورقة، أي تجاوزت عما فيها. والصفوح، قيل: من أسماء الله، والصفوح: المرأة تستر بعض وجهها إعراضاً، قال:
صفوح فما تلقاك إلا بخيلة *** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملت
تلك: من أسماء الإشارة، يطلق على المؤنثة في حالة البعد، ويقال: تلك وتيلك وتالك، بفتح التاء وسكون اللام، وبكسرها وياء بعدها، وكسر اللام وبفتحها، وألف بعدها وكسر اللام، قال:
إلى الجودي حتى صار حجراً *** وحان لتالك الغمر انحسارا
هاتوا: معناه أحضروا، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتى، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب، وللزوم الألف، إذ لو كانت همزة لظهرت، إذ زال موجب إبدالها، وهو الهمزة قبلها، فليس وزنها أفعل، خلافاً لمن زعم ذلك، بل وزنها فاعل كرام.
وهي فعل، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها. ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر، وهو الزمخشري، وهو أمر وفعله متصرف. تقول: هاتي يهاتي مهاتاة، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه، خلافاً لمن زعم ذلك. وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف، لأن الأصل أن لا حذف، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان. فمعنى هات أحضر، ومعنى ائت أحضر. وتقول: هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين، تصرفها كرامي. البرهان: الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البره، وهو القطع، فتكون النون زائدة. وقيل: من البرهنة، وهي البيان، قالوا: برهن إذا بين، فتكون النون زائدة لفقدان فعلن ووجود فعلل، فينبني على هذا الاشتقاق. التسمية ببرهان، هل ينصرف أو لا ينصرف؟ الوجه: معروف، ويجمع قلة على أوجه، وكثرة على وجوه، فينقاس أفعل في فعل الاسم الصحيح العين، وينقاس فعول في فعل الاسم ليس عينه واواً. اليهود: ملة معروفة، والياء أصلية، فليست مادة الكملة مادة هود من قوله: {هوداً أن نصارى}، لثبوتها في التصريف يهده. وأما هوّده فمن مادة هود. قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه: يهود فيها وجهان، أحدهما: أن تكون جمع يهودي، فتكون نكرة مصروفة. والثاني: أن تكون علماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعة الصرف. انتهى كلامه. وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا: اليهود، إذ لو كان علماً لما دخلته، وعلى الثاني قال الشاعر:
أولئك أولى من يهود بمدحة *** إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب
ليس: فعل ماض، خلافاً لأبي بكر بن شقير، وللفارسي في أحد قوليه، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما، ووزنها فعل بكسر العين. ومن قال: لست بضم اللام، فوزنها عنده فعل بضم العين، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين، لم يسمع منه إلا قولهم: هيؤ الرجل، فهو هيئ، إذا حسنت هيئته. وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو. الحكم: الفصل، ومنه سمي القاضي: الحاكم، لأنه يفصل بين الخصمين. الاختلاف: ضد الاتفاق.
{يا أيها الذين آمنوا}: هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة، بالنداء الدال على الإقبال عليهم، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامًّا: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} وثاني نداء أتى خاصاً: {يا بني إسرائيل اذكروا} وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين: اليهودية والنصرانية، وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين. فكان أول نداء عامًّا، أمروا فيه بأصل الإسلام، وهو عبادة الله.
وثاني نداء، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء: علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله، والتذكير بالنعم، والتخويف من النقم، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه. والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين، قيل: ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره. وروي عن ابن عباس: أنه حيث جاء هذا الخطاب، فالمراد به أهل المدينة، وحيث ورد يا أيها الناس، فالمراد أهل مكة.
{لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا}: بدئ بالنهي، لأنه من باب التروك، فهو أسهل. ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس، قبل بالنهي. ثم لم يكن نهياً عن شيء سبق تحريمه، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالباً، فصار المعنى: ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة، وأمروا بأن يقولوا: انظرنا، إذ هو فعل من النبي صلى الله عليه وسلم، لا مشاركة لهم فيه معه. وقراءة الجمهور: راعنا. وفي مصحف عبد الله وقراءته، وقراءة أبي: راعونا، على إسناد الفعل لضمير الجمع. وذكر أيضاً أن في مصحف عبد الله: ارعونا. خاطبوه بذلك إكباراً وتعظيماً، إذ أقاموه مقام الجمع. وتضمن هذا النهي، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حياة، وابن محيصن: راعنا بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولاً راعناً، وهو على طريق النسب كلابن وتامر. لما كان القول سبباً في السبب، اتصف بالرعن، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه، أو يوهم شيئاً من الغض، مما يستحقه صلى الله عليه وسلم من التعظيم وتلطيف القول وأدبه.
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك، إذ خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعونة، وكذا قيل في راعونا، إنه فاعولاً من الرعونة، كعاشورا. وقيل: كانت لليهود كلمة عبرانية، أو سريانية يتسابون بها وهي: راعينا، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها. ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار، فليس قوله بشيء، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب. وكذلك قول من قال: إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحاً، لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً قبل. وقيل في سبب نزولها غير ذلك. وبالجملة، فهي كما قال محمد بن جرير: كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
«لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم» وذكر في النهي وجوه: إن معناها اسمع لا سمعت، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر، قاله قطرب، أو أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي راعي غنمنا، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة. وقوله: انظرنا، قراءة الجمهور، موصول الهمزة، مضموم الظاء، من النظرة، وهي التأخير، أي انتظرنا وتأنّ علينا، نحو قوله:
فإنكما إن تنظراني ساعة *** من الدهر تنفعني لدى أم جندب
أو من النظر، واتسع في الفعل فعدى بنفسه، وأصله أن يتعدى بإلى، كما قال الشاعر:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر *** ن كما ينظر الأراك الظباء
يريد: إلى الأراك، ومعناه: تفقدنا بنظرك. وقال مجاهد: معناه فهمنا وبين لنا، فسر باللازم في الأصل، وهو انظر، لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل، والتأني به أن يفهم بذلك. وقيل: هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه، فاتسع في الفعل أيضاً، إذ أصله أن يتعدى بفي، ويكون أيضاً على حذف مضاف، أي انظر في أمرنا. قال ابن عطية: وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى: راعنا، فبدلت للمؤمنين اللفظة، ليزول تعلق اليهود. انتهى. وقرأ أبي والأعمش: أنظرنا، بقطع الهمزة وكسر الظاء، من الإنظار، ومعناه: أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك. وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور.
{واسمعوا}: أي سماع قبول وطاعة. وقيل: معناه اقبلوا. وقيل: فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة. وقيل: اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه. أكد عليهم ترك تلك الكلمة. وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، فوالذي نفسي بيده، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. {وللكافرين عذاب أليم}: ظاهره العموم، فيدخل فيه اليهود. وقيل: المراد به اليهود، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه. ولما نهى أوّلاً، وأمر ثانياً، وأمر بالسمع وحض عليه، إذ في ضمنه الطاعة، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} {ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين}: ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: وددنا لو كان خيراً مما نحن عليه فنتبعه، فأكذبهم الله بقوله: {ما يود الذين كفروا}، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب: الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والظاهر، العموم في أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، وفي المشركين: وهم مشركو العرب وغيرهم، ونفى بما، ونها لنفي الحال، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم. ومن، في قوله: من أهل الكتاب، تبعيضية، فتتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا، وبه قال الزمخشري، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان. {ولا المشركين}، معطوف على: {من أهل الكتاب}. ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي، صاحب (التنبيه)، كلاماً يرد فيه على الشيعة، ومن قال بمقالتهم: في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح، للعطف في قوله: {وأرجلكم}، على قوله: {برؤوسكم}، خرج فيه أبو إسحاق قوله: وأرجلكم بالجر، على أنه من الخفض على الجوار، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار. وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك، وجعل منه قوله: ولا المشركين، في هذه الآية، وقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} وأن الأصل هو الرفع، أي ولا المشركون، عطفاً على الذين كفروا، وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله: ولا المشركين، للتأكيد، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} لمعنى يذكر هناك، إن شاء الله تعالى
{أن ينزل عليكم}: في موضع المفعول بيود، وبناؤه للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وللتصريح به في قوله: {من ربكم}. ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله: {من ربكم}. {من خير}، من: زائدة، والتقدير: خير من ربكم، وحسن زيادتها هنا، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي، فليس نظير: ما يكرم من رجل، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى، لأنه إذا نفيت الودادة، كان كأنه نفى متعلقها، وهو الإنزال، وله نظائر في لسان العرب، من ذلك قوله تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر} فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء، وكذلك قول العرب: ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول، وإن لم يباشره حرف النفي، لأن المعنى: ما يقول ذلك أحد إلا زيد، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان، فيجوز زيادتها، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش: أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم، ويكون المعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.
{من ربكم}: من: لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض. المعنى من خير كائن من خيور ربكم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله: ينزل، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضاف، كما قدّرناه. والخير هنا: القرآن، أو الوحي، إذ يجمع القرآن وغيره، أو ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعظيم؛ أو الحكمة والقرآن والظفر؛ أو النبوة الإسلام، أو العلم والفقه والحكمة؛ أو هنا عام في جميع أنواع الخير، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين، سبعة أقوال، أظهرها الآخر. وسبب عدم ودهم ذلك: أما في اليهود، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل، ولخوفهم على رئاستهم، وأما النصارى، فلتكذيبهم في إدعائهم ألوهية عيسى، وأنه ابن الله، ولخوفهم على رئاستهم، وأما المشركون، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة، واتباع الناس له.
{والله يختصّ برحمته من يشاء}: أي يفرد بها، وضد الاختصاص: الاشتراك. ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً، أي ينفرد، أو متعدّياً، أي يفرد، إذ الفعل يأتي كذلك. يقال: اختصّ زيد بكذا، واختصصته به، ولا يتعين هنا تعديه، كما ذكر بعضهم، إذ يصح، والله يفرد برحمته من يشاء، فيكون من فاعلة، وهو افتعل من: خصصت زيداً بكذا. فإذا كان لازماً، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو: اضطررت، وإذا كان متعدياً، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو: كسب زيد مالاً، واكتسب زيد مالاً. والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها؛ أو النبوّة والحكمة والنصرة، اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله عليّ والباقر ومجاهد والزجاج؛ أو الإسلام، قاله ابن عباس؛ أو القرآن، أو النبي صلى الله عليه وسلم، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} هو نبي الرحمة، أقوال خمسة، أظهرها الأول
{والله ذو الفضل العظيم}: قد تقدّم أن ذو بمعنى صاحب. وذكر جملة من أحكام ذو، والوصف بذو، أشرف عندهم من الوصف بصاحب، لأنهم ذكروا أن ذو أبداً لا تكون إلا مضافة لاسم، فمدلولها أشرف. ولذلك جاء ذو رعين، وذو يزن، وذو الكلاع، ولم يسمعوا بصاحب رعين، ولا صاحب يزن ونحوها. وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر: ذو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يقول: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله: {ذو الجلال} {ذو الفضل}، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً}، وقوله تعالى: {ولا تكن كصاحب الحوت} إن شاء الله تعالى. وتقدّم تفسير {الفضل العظيم} ويجوز أن يراد به هنا: جميع أنواع التفضلات، فتكون أل للاستغراق، وعظمه من جهة سعته وكثرته، أو فضل النبوّة. وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله: {وكان فضل الله عليك عظيماً} أو الشريعة، فعظمها من جهة بيان أحكامها، من حلال، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح؛ أو الثواب والجزاء، فعظمه من جهة السعة والكثرة، {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد، والأظهر القول الأول.
{ما ننسخ من آية}: سبب نزولها، فيما ذكروا، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم، وينهاهم عنه غداً، ويقول اليوم قولاً، ويرجع عنه غداً، ما هذا القرآن إلا من عند محمد، وأنه يناقض بعضه بعضاً، فنزلت.
وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه، وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه، وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبماذا ينسخ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطوّلوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه. وهكذا جرت عادتنا: أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير. ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير.
وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير. فمن زاد على ذلك، فهو فضول في هذا العلم، ونظير ما ذكره الرازي وغيره، إن النحوي مثلاً يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة، فذكر أن الألف في الله، أهي منقلبة من ياء أو واو؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل. ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس. ثم استطرد إلى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب. ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم. فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة، إذا هو يتكلم في الجنة والنار، ومن هذا سبيله في العلم، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، قدّس الله تربته، يقول ما معناه: متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف، فاعلم أن ذلك، إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات.
وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير، بل إنما تركنا ذلك عمداً، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير. وأسأل الله التوفيق للصواب.
وما من قوله: ما ننسخ، شرطية، وهي مفعول مقدّم، وفي ننسخ التفات، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم. ألا ترى إلى قوله: {والله يختصّ}؟ {والله ذو الفضل}؟ وقرأ الجمهور: ننسخ من نسخ، بمعنى أزال، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معاً، أو إزالة اللفظ فقط، أو الحكم فقط. وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة: ما ننسخ من الإنساخ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال: ليست لغة، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية، لأن المعنى يجيء: ما يكتب من آية، أي ما ينزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً. وليس الأمركذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نجده منسوخاً، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً. قال أبو عليّ: وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءات في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ. انتهى كلامه. فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب. وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال: وإنساخها الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة، بالإعلام بنسخها، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية. وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين. تقول: نسخ زيد الشيء، أي أزاله، وأنسخه إياه عمرو: أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء، أي يزيله. وقال ابن عطية: التقدير ما ننسخك من آية، أي ما نبيح لك نسخة، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً. وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ. وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ. وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو: أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، أي ذلك فعلنا، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك، أو بمثله، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها.
انتهى كلامه. وذهل عن القاعدة النحوية، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عل


المنع: الحيلولة بين المريد ومراده. ولما كان الشيء قد يمنع صيانة، صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه؛ قاله الراغب. وفعله: منع يمنع، بفتح النون، وهو القياس، لأن لام الفعل أحد حروف الحلق. المساجد: معروفة، وسيأتي الكلام على المفرد أول ما يذكر في القرآن، إن شاء الله. السعي: المشي بسرعة، وهو دون العدو، ثم يطلق على الطلب، كما قال امرؤ القيس:
فلولا أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فسره الشراح بالطلب.
الخراب: ضد العمارة، وهو مصدر خرب الشيء يخرب خراباً، ويوصف به فيقال: منزل خراب، واسم الفاعل: خرب، كما قال أبو تمام:
ما ربع مية معموراً يطيف به *** غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
والخرب: ذكر الحبارى، يجمع على خربان. المشرق والمغرب: مكان الشروق والغروب، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل، بكسر العين شذوذاً، والقياس الفتح، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه، فقياس صوغ المصدر منه، والزمان والمكان مفعل، بفتح العين. أين: من ظروف المكان، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه، وفي الشرط معنى حرفه، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله:
أين تضرب بنا العداة تجدنا ***
وزعم بعضهم أن أصل أين: السؤال عن الأمكنة. ثم: ظرف مكان يشار به للبعيد، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة، وهو لازم للظرفية، لم يتصرف فيه بغير من يقول: من ثم كان كذا. وقد وهم من أعربها مفعولاً به في قوله: {وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} بل: مفعول رأيت محذوف. واسع: اسم فاعل من وسع يسع سعة ووُسعاً، ومقابله ضاق، إلا أن وسع يأتي متعدّياً: {وسع كرسيه السموات والأرض} {ورحمتي وسعت كل شيء} الولد: معروف، وهو فعل بمعنى مفعول، كالقبض والنقض، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول، وفعله: ولد يلد ولادة ووليدية، وهذا المصدر الثاني غريب. القنوت: القيام، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء. قنت شهراً: دعا. البديع: النادر الغريب الشكل. بدع يبدع بداعة فهو بديع، إذا كان نادراً، غريب الصورة في الحسن، وهو راجع لمعنى الابتداع، وهو الاختراع والإنشاء. قضى: قدّر، ويجيء بمعنى أمضى. قضى يقضي قضاء. قال:
سأغسل عني العار بالسيف جالباً *** عليّ قضاء الله ما كان جالبا
قال الأزهري: قضى على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبّع
وقال الشماخ في عمر:
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها *** بوائق في أكمامها لم تفتق
فيكون بمعنى خلق: {فقضاهن سبع سموات}، وأعلم: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} وأمر: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} وألزم، منه قضى القاضي، ووفى: {فلما قضى موسى الأجل} وأراد: {إذا قضى أمراً} لولا: حرف تحضيض، وجاء ذلك في القرآن كثيراً، وحكمها حكم هلا، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً، وتلك لا يليها إلا الاسم، على خلاف في إعرابه. الجحيم: إحدى طبقات النار، أعاذنا الله منها. وقال الفراء: الجحيم: النار على النار. وقال أبو عبيد: النار المستحكمة المتلظية. وقال الزجاج: النار الشديدة الوقود، يقال جحمت النار تحجم: اشتدّ وقودها. وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض. وقال ابن فارس: الجاحم: المكان الشديد الحر، ويقال لعين الأسد: جحمة، لشدة توقدها، ويقال لشدة الحر: جاحم، قال:
والحرب لا يبقى لجا *** حمها التخيل والمراح
الرضا: معروف، ويقابله الغضب، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر، ورضاء بالمد، ورضواناً، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى، قال:
إذا رضيت عليّ بنو قشير ***
وخرج على أن يكون على بمعنى عن، أو على تضمين رضي معنى عطف، فعدي بعلى كما تعدى عطف. الملة: الطريقة، وكثر استعمالها بمعنى الشريعة، فقيل: الاشتقاق من أمللت، لأن الشريعة تبتني على متلو ومسموع. وقيل: من قولهم طريق ممل، أي قد أثر المشي فيه. الخسران والخسارة: هو النقص من رأس المال في التجارة، هذا أصله، ثم يستعمل في النقص مطلقاً، وفعله متعد، كما أن مقابله متعد، وهو الربح. تقول: خسر درهماً، كما تقول: ربح درهماً. وقال: {خسروا أنفسهم وأهليهم}.
{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}: نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي، الذي خرب بيت المقدس، ولم يزل خراباً إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب. وقيل في مشركي العرب: منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، قاله عطاء، عن ابن عباس، أو في النصارى، كانوا يودون خراب بيت المقدس، ويطرحون به الأقذار. وروي عن ابن عباس، وقال قتادة والسدي، في الروم الذين أعانوا بخت نصر على تخريب بيت المقدس: حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا، على نبينا وعليه السلام، قال أبو بكر الرازي: لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل. وقيل في بخت نصر، قاله قتادة، وقال ابن زيد وأبو مسلم: المراد كفار قريش حين صدوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام. وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد.
وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصاً، فالعبرة به لا بخصوص السبب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه جرى ذكر النصارى في قوله: {وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} وجرى ذكر المشركين في قوله: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسباً لذكرها تلي ما قبلها. ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء. وأظلم: أفعل تفضيل، وهو خبر عن من. ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته، وإنما هو بمعنى النفي، كما قال: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} أي ما يهلك. ومعنى هذا: لا أحد أظلم ممن منع. وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن، وهذا أول موارده، وقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} وقال: {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله} {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} إلى غير ذلك من الآيات. ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبراً، ولما كان خبراً توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها، لأنه قال المتأول في هذا: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وقال في أخرى: لا أحد أظلم ممن افترى، وفي أخرى: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته، فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، وكذلك باقيها. فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض. وقال غيره: التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق، لما لم يسبق أحد إلى مثله، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم، سالكاً طريقتهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية، أو الافترائية. وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى. وإنما هذا نفي للأظلمية، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق. لو قلت: ما في الدار رجل ظريف، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضاً، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية. وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى، وممن ذكر. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر. كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم. لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها، ولم يفتر على الله الكذب، أقلّ ظلماً ممن جمع بينهما، فلا يكون مساوياً في الأظلمية، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار، فهم متساوون في الأظلمية، وإن اختلفت طرق الأظلمية.
فكلها صائرة إلى الكفر، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة، فنقول: الكافر أظلم من المؤمن، ونقول: لا أحد أظلم من الكافر. ومعناه: أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره. ومن في قوله: ممن منع، موصولة بمعنى الذي. وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. أن يذكر: يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع، أو مفعولاً من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجروراً على رأي. وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيهاً على أنهم منعوا من أيسر الأشياء، وهو التلفظ باسم الله. فمنعهم لما سواه أولى. وحذف الفاعل هنا اختصاراً، لأنهم عالم لا يحصون. وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله، فناسب تقديم المجرور لذلك. وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف، كما قال تعالى: {وأن المساجد لله} وخصّ بلفظ المسجد، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالاً كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف. وكل هذا متعبد به، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه، وهو الوجه، التراب الذي هو موطئ قدميه.
قال ابن عطية: وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة، أو خرّب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل مساجد الله؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس، أو المسجد الحرام؟ قلت: لا بأس أن يجيء الحكم عامًّا، وإن كان السبب خاصاً، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً، ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال الله عز وجل: {ويل لكل همزة لمزة}
والمنزول فيه الأخنس بن شريق. انتهى كلامه. وقال غيره: جمعت لأنها قبلة المساجد كلها، يعني الكعبة للمسلمين، وبيت المقدس لغيره. {وسعى في خرابها}: إما حقيقة، كتخريب بيت المقدس، أو مجازاً بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب. فجعل المنع خراباً، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة، وذلك مجار. وقال المروزي: قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد.
{أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين}: هذه جملة خبرية قالوا تدلّ على ما يقع في المستقبل، وذلك من معجز القرآن، إذ هو من الإخبار بالغيب. وفيها بشارة للمؤمنين بعلوّ كلمة الإسلام وقهر من عاداه. إلا خائفين: نصب على الحال، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال. وقرأ أبي: إلا خيفاً، وهو جمع خائف، كنائم ونوّم، ولم يجعلها فاصلة، فلذلك جمعت جمع التكسير. وإبدال الواو ياء، إذ الأصل خوّف، وذلك جائز كقولهم، في صوم صيم، وخوفهم: هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية، أو من أن يبطش بهم المؤمنون، أو في المحاكمة، وهي تتضمن الخوف، أو ضرباً موجعاً، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب، أقوال. والظاهر أن المعنى: أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه. فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه {يسبح له فيها بالغدوّ والآصال}؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه، ويسعى في عمارته، ولا يدخله الإنسان إلا وجلاً خائفاً، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة. ونظير الآية أن يقول: ومن أظلم ممن قتل ولياً لله تعالى؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظماً له مكرّماً أي هذه حالة من يلقى ولياً لله، لا أن يباشره بالقتل. ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه، إذ كان ينبغي أن يقع ضده، وهو التبجيل والتعظيم. ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم. ولو أريد ما ذكروه، لكان اللفظ: أولئك ما يدخلونها إلا خائفين، ولم يأت بلفظ: ما كان لهم، الدالة على نفي الابتغاء. وقيل المعنى: ما كان لهم في حكم الله، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين. قال بعض الناس: وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف، وليس كما قال، إذ قد ذكرنا ما دلّ عليه ظاهر الآية. وقيل في قوله: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها}: أن لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجراً حجراً. فلما رأى أن هذا يعارض الآية، إذا جعلناها خبراً لفظاً، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جداً، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه، بطلت هذه الأقوال. وأما قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة}، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة، وسيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقوله: {أولئك}، حمل على معنى من في قوله: {ومن أظلم}، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب. أما إذا كانت موصوفة نحو: مررت بمن محسن لك، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها. وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة. وقال بعض الناس في قوله تعالى: {ومن أظلم}: الآية، دليل على منع دخول الكافر المسجد، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، وهي مسألة تذكر في علم الفقه، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية.
{لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}: هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم. أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال، وهو مناسب للوصف الأول، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان. وأما العذاب العظيم في الآخرة، فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب {كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب. ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكماً، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي، أو جزية للذمي، لم يحتج إلى وصف. ولما كان العذاب متفاوتاً، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن. وقيل: الخزي هو الفتح الإسلامي، كالقسطنطينية وعمورية ورومية، وقيل: جزية الذمي، قاله ابن عباس، وقيل: طردهم عن المسجد الحرام، وقيل: قتل المهدي إياهم إذا خرج، قاله المروزي، وقيل: منعهم من المساجد. قال بعض معاصرينا: إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزياً. أما اليهود والنصارى، فقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم، وإجراء الجزية عليهم، والسيما التي التزموها، وما شرطه عمر عليهم.
وأما مشركو العرب، فقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا. وقال الفرّاء: معناه في آخر الدنيا، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد. قال القشيري: في قوله تعالى: {ومن أظلم} الآية، إشارة إلى ظلم من خرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات، وهي أسرار الموح


إبراهيم: اسم علم أعجمي. قيل: ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية: أب رحيم، وفيه لغى ست: إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة، وبألف مكان الياء، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء، أو فتحها، أو ضمها، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء، قال عبد المطلب:
نحن آل الله في كعبته *** لم نزل ذاك على عهد إبراهيم
وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم *** إذ قال وجهي لك عان راغم
الإتمام: الإكمال، والهمزة فيه للنقل. ثم الشيء يتم: كمل، وهو ضد النقص. الإمام: القدوة الذي يؤتم به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، وهو مفرد على فعال، كالإزار للذي يؤتزر به، ويكون جمع آم، اسم فاعل من أم يؤم، كجائع وجياع، وقائم وقيام، ونائم ونيام. الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسيّ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعلية من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسماً، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضاً، كخروبة.
فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنيه، أو منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبه من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضاً، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فالأصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت. النيل: الإدراك. نلت الشيء أناله نيلاً، والنيل: العطاء. البيت: معروف، وصار علماً بالغلبة على الكعبة، كالنجم للثريا. الأمن: مصدر أمن يأمن، إذا لم يخف واطمأنت نفسه. المقام: مفعل من القيام، يحتمل المصدر والزمان والمكان. اسماعيل: اسم أعجمي علم، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون، قال:
قال جواري الحي لماجينا *** هذا ورب البيت اسماعينا
ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولداً ويقول: اسمع ايل، وايل هو الله تعالى. التطهير: مصدر طهر، والتضعيف فيه للتعدية. يقال: طهر الشيء طهارة: نطف. الطائف: اسم فاعل من طاف به إذا دار به، ويقال أطاف: بمعنى طاف، قال:
أطافت به جيلان عند فطامه ***
والعاكف: اسم فاعل من عكف بالشيء: أقام به ولازمه، قال:
عليه الطير ترقبه عكوفا ***
وقال يعكفون على أصنام لهم: أي يقيمون على عبادتها. البلد: معروف، والبلد الصدر، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى. يقال: وضعت الناقة بلدتها إذا بركت. وقيل: سمي البلد بمعنى الأثر، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت، قال:
أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها
والبارك: البارك بالبلد. الاضطرار: هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه، وهو افتعل من الضر، أصله: اضترار، أبدلت التاء طاء بدلاً لازماً، وفعله متعد، وعلى ذلك استعماله في القرآن، وفي كلام العرب، قال:
اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ ***
المصير: مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى. القواعد: قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: الأساس، قال:
في ذروة من بقاع أولهم *** زانت عواليها قواعدها
وبالأساس فسرها ابن عطية أولاً والزمخشري وقال: هي صفة غالبة، ومعناها الثانية، ومنه قعدك الله، أي أسأل الله أن يقعدك، أي يثبتك.
انتهى كلامه. والقواعد من النساء جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه، إن شاء الله تعالى. الأمة: الجماعة، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة، والواحد المعظم المتبوع، والمنفرد في الأمر والدين والحين. والأم: هذه أمة زيد، أي أمه، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ، وأتباع الرسل، والطريقة المستقيمة، والجيل. المناسك: جمع منسك ومنسك، والكسر في سين منسك شاذ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك، والناسك: المتعبد. البعث: الإرسال، والإحياء، والهبوب من النوم. العزيز، يقال: عزيعز بضم العين، أي غلب، ومنه: {وعزني في الخطاب}، وعز يعز بفتحها، أي اشتد، ومنه: عز علىَّ هذا الأمر، أي شق، وتعزز لحم الناقة: اشتد. وعزيعز من النفاسة، أي لا نظير له، أو قل نظيره. الرغبة عن الشيء: الزهادة فيه، والرغبة فيه: الإيثار له والاختيار له، وأصل الرغبة: الطلب. الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازماً. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعدياً، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي}: مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس، كما قال: {ما ولاهم عن قبلتهم} ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه، واقتفاء لآثاره. فكان تعظيم البيت لازماً لهم، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنهم، وإن كانوا من نسله، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف، وقدروه اذكر، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم، فيكون مفعولاً به، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة} والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به، وهو {قال إني جاعلك}. والابتلاء: الاختبار، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل: معناه أمر. قال الزمخشري: واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. انتهى كلامه، وفيه دسيسة الاعتزال. وفي ري الظمآن الابتلاء: إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما متلازمان.
وابراهيم هنا، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خليل الله، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود النبي عليه السلام، ومولده بأرض الأهواز.
وقيل: بكوثي، وقيل: ببابل، وقيل: بنجران، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان. وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه. وقرأ الجمهور: إبراهيم بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين. زاد هشام أنه قرأ كذلك في: ابراهيم، والنحل، ومريم، والشورى، والذاريات، والنجم، والحديد، وأول الممتحنة، وثلاث آخر النساء، وأخرى التوبة، وآخر الأنعام، والعنكبوت. وقرأ المفضل: ابراهام بألفين، إلا في المودة والأعلى. وقرأ ابن الزبير: ابراهام، وقرأ أبو بكرة: إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه. وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء، وأبو حنيفة: برفع إبراهيم ونصب ربه. فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب، وتقدم معنى ابتلائه إياه. قال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي. وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيداً، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشرى في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية. وقرأ ابن عباس: معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء بتطلب فيها الإجابة، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان.
والكلمات لم تبين في القرآن ما هي، ولا في الحديث الصحيح، وللمفسرين فيها أقوال: الأول: روى طاوس، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق العانة، والاستطابة، والختان، وهذا قول قتادة. الثاني عشر: وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً. الثالث: ثلاثون سهماً في الإسلام، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم، وهي عشر في براءة {التائبون} الآية، وعشر في الأحزاب {إن المسلمين} الآية، وعشر في {قد أفلح} وفي المعارج. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً. الرابع: هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. وقيل: بدل الهجرة الذبح لولده، قاله الحسن. الخامس: مناسك الحج، رواه قتادة، عن ابن عباس. السادس: كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل: {رب اجعل هذا البلد آمناً}، قاله مقاتل.
السابع: هي قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقوله: ربنا تقبل منا، قاله ابن جبير. الثامن: هو قوله تعالى: {وحاجَّه قومه} قاله يمان. التاسع: هي قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} الآيات، قاله أبو روق. العاشر: هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه، فسلم ماله للضيفان، وولده للقربان، ونفسه للنيران، وقلبه للرحمن، فاتخذه الله خليلاً. الحادي عشر: هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة، ثم أن تطهر ففرق شعره، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. وفي البخاري، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم، وأوحى الله إليه {إني جاعلك للناس إماماً}، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فإن صحت تلك الرواية، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته، فيتفق التاريخان، والله أعلم. الثاني عشر: هي عشرة: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الملة والصلاة، وهي الفطرة والزكاة، وهي الطهرة والصوم، وهو الجنة والحج، وهو الشعيرة والغزو، وهو النصرة والطاعة، وهي العصمة والجماعة، وهي الألفة والأمر بالمعروف، وهو الوفاء والنهي عن المنكر، وهو الحجة. الثالث عشر: هي: تجعلني إماماً، وتجعل البيت مثابة وأمناً، وترينا مناسكنا، وتتوب علينا، وهذا البلد آمناً، وترزق أهله من الثمرات. فأجابه الله في ذلك بما سأله، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم، إذ كلها ابتلاه بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد، ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات، إن كانت أقوالاً، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات، وإن كانت أفعالاً، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر، والأوامر كلمات. سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن. قال تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم} وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، والفرق، والسدل، والسواك، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان، والشيب وتغييره، والثريد، والضيافة. وهذا يبحث فيه في علم الفقه، وليس كتابنا موضوعاً لذلك، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.
فأتمهن: الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية. فأتمهن معطوف على ابتلى، فالمناسب التطابق في الضمير.
وعلى هذا، فالمعنى: أي أكملهن له من غير نقص، أو بينهن، والبيان به يتم المعنى ويظهر، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن، أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، أقوال خمسة. ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم. فالمعنى على هذا أدامهن، أو أقام بهن، قاله الضحاك؛ أو عمل بهن، قاله يمان؛ أو وفى بهن، قاله الربيع، أو أدّاهن، قاله قتادة. خمسة أقوال تقرب من الترادف، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به. واختلفوا في هذا الابتلاء، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال القاضي: كان قبل النبوة، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب، لأنه جعله إماماً، والسبب مقدم على المسبب، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً. وقال آخرون: إنه بعد النبوة، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك. أجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق.
{قال إني جاعلك}: تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً، كانت قال استئنافاً، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: {قال إني جاعلك للناس إماماً}. وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: ابتلى، وتفسيراً له. للناس: يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماماً كائناً للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماماً. قيل: قال أهل التحقيق: والمراد بالإمام هنا: النبي، أي صاحب شرع متبع، لأنه لو كان تبعاً لرسول، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له. ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء، ومن يكون كذلك، لا يكون إلا نبياً. ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} والخلفاء أيضاً أئمة، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس، ومن يؤتم به في الباطل. قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها، لأنه ذكره في معرض الامتنان، فلا بد أن يكون أعظم نعمة، ولا شيء أعظم من النبوة.
قال ومن ذريتي، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعد، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماماً الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً. وقرأ زيد بن ثابت: ذريتي بالكسر في الذال. وقرأ أبو جعفر بفتحها. وقرأ الجمهور بالضم، وذكرنا أنها لغات فيها، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.
{قال لا ينال عهدي الظالمين}: والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم، وفي قال هذه عائد على الله تعالى. والعهد: الإمامة، قال مجاهد: أو النبوة، قاله السدي؛ أو الأمان، قاله قتادة. وروي عن السدي، واختاره الزجاج: أو الثواب قاله قتادة أيضاً؛ أو الرحمة، قاله عطاء؛ أو الدين، قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، قاله ابن عباس؛ أو الأمر من قوله: {إن الله عهد إلينا} {ألم أعهد إليكم} أو إدخاله الجنة من قوله: كان له {عند الله عهداً} أن يدخله الجنة؛ أو طاعتي، قاله الضحاك أيضاً؛ أو الميثاق؛ أو الأمانة. والظاهر من هذه الأقوال: أن العهد هي الإمامة، لأنها هي المصدر بها، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين. وذكر بعض أهل العلم أن قوله: {ومن ذريتي} هو استعلام، كأنه قيل: أتجعل من ذريتي إماماً: وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب، أي واجعل من ذريتي. وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله، وسأل أن يجعل من ذريته إماماً، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله: {لا ينال عهدي الظالمين} أنه جواب لقول إبراهيم: {ومن ذريتي} على سبيل الجعل، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا، أو لا ينال عهدي ذريتك، ولم ينط المنع بالظالمين. وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش: الظالمون بالرفع، لأن العهد ينال، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه.
وقد فسر الظلم هنا بالكفر، وهو قول ابن جبير، وبظلم المعاصي غير الكفر، وهو قول عطاء والسدي. واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، قال الحسن: لم يجعل الله لهم عهداً. قال ابن أبي الفضل: ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ، لأنه قال: ومن ذريتي، وهو محتمل، وجاعل من ذريتي، أو تجعل من ذريتي، أو اجعل من ذريتي. وإذا كان هذا كله محتملاً غير منطوق به، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم: أجيب إلى ملتمسه، فاللفظ لا يدل على ذلك، بل يدل على ضده، لأن ظاهره: أن أولادك ظالمون. لكن دل الدليل على خلاف ذلك، وهو: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة. ولو قال: لا ينال عهدي الظالمين منهم، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولاً بيناً. انتهى ما ذكره ملخصاً بعضه. وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال. أما من قدر: واجعل من ذريتي إماماً، فهو سؤال؛ وأما من قدر: وتجعل وجاعل، فهو استفهام على حذف الاستفهام، إذ معناه: وأجاعل أنت يا رب، أو أتجعل يا رب من ذريتي. والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم: وجاعل، أو تجعل من ذريتي إماماً خبراً، لأنه خبر من نبي. وإذا كان خبراً من نبي، كان صدقاً ضرورة. ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماماً. فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك. وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام. هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل؟ فأجابه الله: إلى أن من كان ظالماً لا يناله عهده. وأما قوله: إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون، فليس كذلك، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها. ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير، أي: ظالموهم، أو الضمير محذوف، أي منهم. ومن أغرب الانتزاعات في قوله: {لا ينال عهدي الظالمين} ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا، كون أبي بكر لا يكون إماماً قالوا: لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه، لأنه سجد للأصنام، فقد ظلم. وقد قال تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}، وذلك بخلاف عليّ، فإنه لم يسجد لصنم قط.
قلت له: فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالماً، كسلمان، وأبي ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار. وهذا ما لا يذهب إليه أحد، فلم يحر جواباً.
وقال الزمخشري: وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد، ابني عبد الله بن الحسين، حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المتصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد، وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف المظلمة؟ فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه، فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب فقد ظلم. انتهى كلامه. وزيد بن عليّ الذي ذكره، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم. وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة، وإنما ذكره الزمخشري، لأنه كان بمكة مجاوراً للزيدية ومصاحباً لهم، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم. واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، الذي ذكره الزمخشري، هو هشام بن عبد الملك، خرج عليه زيد بن عليّ، وكان قد قال لأخيه الباقر: ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك؟ فأعرض عنه وقال له: لهذا وقت لا يتعداه. فدعا إلى نفسه وقال: إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته. فقال له الباقر: يا زيد! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه. فإذا فعل ذلك سقط، فأخذه الصبيان يتلاعبون به. فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غداً بالكناسة. فلم يلتفت زيد لكلام الباقر، وخرج على هشام، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة، وأحرقه بالنار، وكان كما حذره الباقر. وأما الدوانيقي، فهو المنصور أخو السفاح، سمي بذلك قيل لبخله. وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة. وأما إبراهيم ومحمد، اللذان ذكرهما الزمخشري، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كانا قد تغيبا أيام السفاح، وأول أيام المنصور، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر، فخطب حتى حضرت الصلاة، فنزل وصلى بالناس، وبويع بالمدينة طوعاً، واستعمل العمال، وغلب على المدينة والبصرة، وجبى الأموال.
وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه. وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى، وإن كان موضوعها أصول الدين، فهناك ذكرها، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال. فنقول: الذي عليه أصحاب الحديث والسنة، أن نصب الإمام فرض، خلافاً لفرقة من الخوارج، وهم أصحاب نجدة الحروري. زعموا أن الإمامة ليست بفرض، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاجون إلى إمام، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع. واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل، خلافاً للرافضة، إذ أوجبت ذلك عقلاً، ويكون الإمام من صميم قريش، خلافاً لفرقة من المعتزلة، إذ قالوا: إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي، وجب نصب النبطي دون القرشي، وسواء في ذلك بطون قريش كلها، خلافاً لمن خص ذلك بنسل عليّ، أو العباس، إما منصوصاً عليه، وإما باجتهاد، ويكون أفضل القوم، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل، خلافاً لأبي العباس القلانسي، فإنه يقول: ينعقد للمفضول، إذا كان بصفة الإمامة، مع وجود الفاضل، وشروطه: أن يكون عدلاً مجتهداً في أحكام الشريعة، شجاعاً، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق، فقال أبو الحسن: يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم. وقال أبو الحسن أيضاً، والقاضي أبو بكر بن الطيب: لا يجوز الخروج عليه، وإن أمن الناس ذلك، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين، ولا اعتبار في ذلك بعدد، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد، وجبت المبايعة على كلهم، خلافاً لمن خص أهل البيعة بأربعة. وقال: لا ينعقد بأقل من ذلك، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بأربعين، أو لمن قال: لا ينعقد إلا بسبعين، ثم من خالف كان باغياً أو ناظراً أو غالطاً، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه. ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد، خلافاً للكرامية، إذ أجازوا ذلك، وزعموا أن علياً ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، والقول بالتقية باطل، خلافاً للإمامية، ومعناها: أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماماً مستوراً، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة. وليس من شرط الإمام العصمة، خلافاً للرّافضة، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرًّا وعلناً.
وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها، خلافاً للإمامية، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده. وليس لأحد الخروج عليه بالسيف، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب، خلافاً لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم. وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي: الإمامة في الصلاة، وموضوعها علم الفقه.
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}: لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم، كانوا أحق بتعظيمها، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها، وهو كونها مثابة للناس وأمناً، وأن فيها مقام إبراهيم، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها. والبيت هنا: الكعبة، على قول الجمهور. وقيل: المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة، لأنه وصفه بالأمن، وهذه صفة جميع الحرم، لا صفة الكعبة فقط. ويجوز إطلاق البيت، ويراد به كل الحرم. وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به، ولا تطلق على كل الحرم. والتاء في مثابة للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، قاله الأخفش، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، كما يقال مقام ومقامه، قال الشاعر:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة *** فهل يعجزني بقعة من بقاعها
ذكر رحباً على مراعاة المكان، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة: مثابات على الجمع، وقال ورقة بن نوفل:
مثاباً لا فناء القبائل كلها *** تخب إليها اليعملات الطلائح
ويروى: الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس، لا يختص به واحد منهم، {سواء العاكف فيه والباد}. ومثابة، قال مجاهد وابن جبير معناه: يثوبون إليه من كل جانب، أي يحجونه في كل عام، فهم يتفرّقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطراً، وقال الشاعر:
جعل البيت مثاباً لهم *** ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال ابن عباس: معاذاً وملجأ. وقال قتادة والخليل: مجمعاً. وقال بعض أهل اللغة، فيما حكاه الماوردي: أي مكان. إثابة: واحدة من الثواب، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالاً منه. والألف واللام في قوله للناس: أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والأمن: مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن، أو على حذف مضاف، أي ذا أمن، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازاً، أي آمنا، كما قال تعالى: {اجعل هذا البلد آمناً}، وجعله آمناً، اختلفوا، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال: إنه في الدنيا، فقيل معناه: أن الناس كانوا يقتتلون، ويغير بعضهم على بعض حول مكة، وهي آمنة من ذلك، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمناً للناس والطير والوحش، إلا الخمس الفواسق، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما من أحدث حدثاً خارج الحرم، ثم أتى الحرم، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه. وقيل معناه: إنه آمن من لأهله، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة، فلا يروعه أحد. وقيل: معناه: إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده. ومن قال هذا الأمن في الآخرة، قيل: من المكر عند الموت. وقيل: من عذاب النار. وقيل: من بخس ثواب من قصده، قال قوم: وهذا الأمن مختص بالبيت. وقيل: يشمل البيت والحرم. وقال في ريّ الظمآن معناه: ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب. والظاهر أن قوله: وأمناً، معطوف على قوله: مثابة، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمناً، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل، وكان البيت محرّماً بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ: واتخذوا على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.
{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، والجمهور: واتخذوا، بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتحها، جعلوه فعلاً ماضياً. فأما قراءة: واتخذوا على الأمر، فاختلف من المواجه به، فقيل: إبراهيم وذريته، أي وقال الله لإبراهيم وذريته: اتخذوا. وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، أي: وقلنا اتخذوا. ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، فذكر منها وقلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال: «هذا مقام إبراهيم»، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: «لم أومر بذلك». فلم تغب الشمس حتى نزلت. وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولاً لقول محذوف. وقيل: المواجه به بنو إسرائيل، وهو معطوف على قوله: {اذكروا نعمتي} وقيل: هو معطوف على قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة}، قالوا: لأن المعنى: ثوبوا إلى البيت، فهو معطوف على المعنى.
وهذان القولان بعيدان. وأما قراءة: واتخذوا، بفتح الخاء، فمعطوف على ما قبله، فأما على مجموع، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ، وإما على نفس جعلنا، فلا يحتاج إلى تقديرها، بل يكون في صلة إذ. والمعنى: واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها، قاله الزمخشري. من مقام: جوّزوا في من أن تكون تبعيضية، وبمعنى في، وزائدة على مذهب الأخفش، والأظهر الأول. وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقاً، وأعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام، يراد به المكان، أي مكان قيامه، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وخرجه البخاري، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم. وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال نعم، فأراه موضعه اليوم. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب، فاغتسل عليه، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه، قاله الربيع بن أنس؛ أو مواقف الحج كلها، قاله ابن عباس أيضاً وعطاء ومجاهد، أو عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء والشعبي، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها؛ أو الحرم كله، قاله النخعي ومجاهد؛ أو المسجد الحرام، قاله قوم. واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ الحديث، وبقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف وأتى المقام: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره. فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى، ولأن المقام هو موضع القيام، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره. مصلى: قبلة، قاله الحسن. موضع صلاة، قاله قتادة. موضع دعاء، قاله مجاهد، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة. قال ابن عطية: موضع صلاة على قول من قال المقام: الحجر، ومن قال غيره قال: مصلى، مدعى على أصل الصلاة، يعني في اللغة. انتهى.
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرنا أو وصينا، أو أوحينا، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى. {أن طهرا}: يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا.
فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيداً، ولا يعجبني أن أضرب زيداً، فتوصل بالأمر، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر. والتطهير: المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به. وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد، قاله السدّي، وهو بعيد، وبالتطهير من الأوثان. وذكروا أنه كان عامراً على عهد نوح، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد، فعبدت من دون الله، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل. والمعنى: أنه لا ينصب فيه وثن، ولا يعبد فيه غير الله. وقال يمان: معناه بخّراه ونظفاه وخلقاه. وقيل: من الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقيل: من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه. وقيل: معناه أخلصاه لهؤلاء، لا يغشاه غيرهم، والأولى حمله على التطهير مما لا يناسب بيوت الله، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس، وجميع الخبائث، وما يمنع منه شرعاً، كالحائض.
{بيتي}: هذه إضافة تشريف، لا أن مكاناً محل لله تعالى، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه، صار له بذلك اختصاص، فحسنت إضافته إلى الله بذلك، وصار نظير قوله: {ناقة الله} {وروح الله} من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره، فناسب الإضافة إليه تعالى. والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى. وقد تقدّم أنه كان مبنياً على عهد نوح. {للطائفين والعاكفين}: ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد، قاله عطاء وغيره. وقال ابن جبير: الغرباء الطارئون على مكة حجاجاً وزوّاراً، فيرحلون عن قريب، ويؤيده أنه ذكر بعده. والعاكفين، قال: وهم أهل البلد الحرام المقيمون، والمقيم مقابل المسافر. وقال عطاء: العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب. وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء. وقال ابن عباس: المصلون، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت، إنما يدخل لطواف أو صلاة. وقيل: هم المعتكفون. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالعاكفين: الواقفين، يعني القائمين، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود. والمعنى للطائفين والمصلين، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. انتهى. ولو قال: القائم هنا معناه: العاكف، من قوله: ما دمت عليه قائماً، لكان حسناً، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيئ البيت له.
{والركع السجود}: هو المصلون عند الكعبة، قاله عطاء وغيره. وقال الحسن: هم جميع المؤمنين، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي، لأنهما أقرب أحواله إلى الله، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً، وكان آخرهما على فعول، لا على فعل، لأجل كونها فاصلة، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود: المصلون، فناسب أن لا يعطف، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة، وليس كذلك. وفي قوله: {والركع السجود} دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً، إذ لم يخصص.
{وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً}: ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى. وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته. واجعل هنا بمعنى: صير، وصورته أمر، وهو طلب ورغبة. وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه، وهو قوله: {بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم} أو إلى المكان الذي صار بلداً، ولذلك نكره فقال: {بلداً آمناً}. وحين صار بلداً قال: {رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني} وقَال {لا أقسم بهذا البلد} هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين. وقيل: الآيتان سواء، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً، ويكون بلداً النكرة، توطئة لما يجيء بعده، كما تقول: كان هذا اليوم يوماً حاراً، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً. ويحتمل وجهاً آخر وهو: أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً، بل دعى له بذلك، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله: {هذا البلد}، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً. ووصف بلد بآمن، إما على معنى النسب، أي ذا أمن، كقولهم: {عيشة راضية} أي ذات رضا، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم: نهارك صائم وليلك قائم.
وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين، أو من أن يعود حرمه حلالاً، أو من أن يخلو من أهله، أو آمناً من القتل، أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال. ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة، فالواقع يرده، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا، كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج بن يوسف، والقرامطة، وغيرهم. وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً. وقال القفال: معناه مأموناً فيه، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم.
{وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر}: لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. ولما سمع في الإمامة قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}. قيد هنا من سأل له الرزق فقال: {من آمن منهم بالله واليوم الآخر}، والضمير في منهم عائد على أهله. دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب، لأن الكافر لا يدعى له بذلك. ألا ترى أن قريشاً لما طغت، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين، كسني يوسف»، وكانت مكة إذ ذاك قفراً، لا ماء بها ولا نبات، كما قال: {بواد غير ذي زرع} فبارك الله فيما حولها، كالطائف وغيره، وأنبت الله فيه أنواعاً من الثمر. وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل فاقتلع فلسطين، وقيل: بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعاً، فأنزلها بِوَادّ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف، وقال بعضهم:
كل الأماكن إعظاماً لحرمتها *** تسعى لها ولها في سعيها شرف
وذكر متعلق الإيمان، وهو الله تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه. ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم، ولا يختص ذلك بذريته، وإن كان ظاهر قوله: {وارزقهم من الثمرات} مختصاً بذريته لقوله: {إني أسكنت من ذريتي} لعود الضمير في وارزقهم عليه، فيحتمل أن يكونا سؤالين.
ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ ا

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13